Publications /
Opinion
يلف موضوع الحجر الصحي في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط ضباب كثيف، لا تساعد المصادر على انقشاعه. ومع ذلك يمكن القول إن من أهم القضايا التي كانت تشغل بال مغاربة العصور الوسطى أثناء حدوث الوباء، حقيقة العدوى من عدمها، فكانوا يطرحون السؤال الآتي: هل يخُالَطُ المصاب بالوباء أم لا؟
الموقف النظري من المخالطة بين الرفض والقبول
تراوحت المواقف بين نفي العدوى بالوباء وإثباتها، وكان في مقدمة النافين لها أغلب الفقهاء، مستندين على نصوص شرعية تقول بعدم وجودها من وجهة نظر فهمهم لها، وتعتبر الوباء عموما، والطاعون خصوصا مناسبة للمسلمين والمؤمنين لنيل الشهادة. وبذلك لم يعيروا الأوبئة اهتماما، وبالتالي لم يدعوا إلى تطبيق الحجر الصحي خشية أن يعتبر ذلك هروبا من القدر. وهذا ما يفيد مواجهتهم للأوبئة بذهنية سلبية، كانت تزيد من انتشار العدوى، وتكاثر الموتى.
ونلمس موقفا آخر لبعض الفقهاء، قد يفيد إيمانهم بالعدوى، ودعوة غير مباشرة لتطبيق الحجر الصحي، ومن هؤلاء الشيخ محمد بن يوسف بن عمران المزدغي (ت. 655 هـ)، خطيب جامع القرويين، الذي ألف كتابا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: » إذا نزل الوباء بأرض فلا تخرجوا منه فرارا «. وقد يُفْهَم من عنوان هذا التأليف، أنه دعوة لمنع الدخول والخروج من المكان الموبوء كوسيلة لمقاومة الوباء، والحرص على عدم انتشاره في مناطق أخرى.
ولعل اختلاف الفقهاء في موضوع العدوى انعكس على طلبتهم، فقد اختلف طلبة أحمد بن قنفذ (ت. 733 هـ)، إثر تفشي الوباء، في مسألة الفرار منه من عدمها، وهو ما دفعه لتأليف كتاب عنونه بـ"المَسْنُونْ في أحكام الطاعون".
في مقابل هذه المواقف، ظهر موقف آخر ذو منحى "علمي"، أقر أصحابه بوجود العدوى مرتكزين في ذلك على عنصر التجربة، ومن هؤلاء ابن الخطيب الذي خصص جزءا من رسالته "مُقْنِعَةُ السَّائِلْ عن المرض الهائل" لإثباتها، ومما أورده فيها: "فإن قيل كيف نُسَلِّمُ بالعدوى وقد ورد الشرع بنفي ذلك، قلنا وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة. ولا يخفى أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه". وقد هاجم ابن الخطيب في مؤلفه هذا، بعنف، الفقهاء الذين كانوا يصدرون فتاوى تنفي وجود العدوى، ويحرِّمون بناء على ذلك كل لجوء إلى الإجراءات الوقائية وإلى العلاجات الطبية، محاولا إقناعهم بضرورة الإقرار بمسألة عدوى الوباء، ومواجهتها بموقف عقلي. وإذا كان هذا الخطاب وجه إلى المنكرين لعدوى الوباء في الأندلس، فالراجح جدا أن الموقف نفسه من الوباء ساد لدى بعض المغاربة، نظرا للتلاقح الثقافي الذي كان حاصلا باستمرار بين العدوتين من جهة، وكذا من جراء التنقلات الكثيرة لابن الخطيب بين الأندلس والمغرب من جهة أخرى.
الممارسة على أرض الواقع
أما المواقف العملية للمجتمع المغربي خلال العصر الوسيط، فتأرجحت بين الموقفين: الموقف الفقهي الرافض لفكرة العدوى، وموقف القائلين بها.
ونلمس هذا التأرجح من خلال بعض السلوكات التي كانت تصدر عن المجتمع أثناء حدوث الأوبئة منها الفرار من أرض الوباء، مثل ما حدث أثناء وباء 571 هـ/ 1175 م، وقد تعرض الفارون للموت في الطريق. كما هرب بعض ساكني المدن إثر وباء 635 هـ/ 1237 م، الذي كان شديدا، مثل الذي قام به أهل مدينة سلا حيث "هرب [أثناء الوباء] أكثر أهل البلد".
أما القلة القليلة، والتي يبدو أنها كانت تتوفر على إمكانيات مادية، فإنها فضلت الاعتزال، وتطبيق الحجر الصحي، وأبرز نموذج في هذا الإطار ابن أبي مدين (ت. 710 هـ)، الذي كان يؤمن بالعدوى، فلما حل الوباء بمدينة سلا، "تزود لمدة، وبنى باب منزله على أهله وهم كثيرون، وفَنِيت المدينة [سلا] ولم يرزأ نسمة واحدة بطول تلك المدة". أما غالبية أهل المدن، وبحكم تفكيرهم الذي غالبا ما كان يؤطره الفقهاء، فقد كانوا يرفضون فكرة العدوى، ومُسَلِّمِين بفكرة بالقضاء والقدر.
ولم تكشف المصادر عن أي موقف للدولة في موضوع الحجر الصحي، ويبدو أن ثقل الفقهاء، خاصة في المجتمعات الحضرية، الرافضين لفكرة العدوى، جعلها تنأى بنفسها عن الإدلاء برأيها أو القيام بإجراءات في هذا الشأن.
د. محمد ياسر الهلالي، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الوسيط تخصص التاريخ الاجتماعي وتاريخ الدهنيات بالمغرب في العصر الوسيط، من جامعة محمد الخامس بالرباط. ويشغل حاليا منصب أستاذ التاريخ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب عين الشق، كما يتحمل مسؤولية الكاتب العام للجمعية المغربية للبحث التاريخي.