Publications /
Opinion
شكلت جائحة كوفيد 19 تحديا غير مسبوق بالنسبة للإعلام المغربي بمختلف منابره المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية. كان السؤال يطرح إشكالية تنشيط آليات إعلام أزمات في بلد لم يشهد الجيل الصحافي الممارس به أزمة سابقة تكرس تقليدا وتشحذ مهارات وتبني ذاكرة خبرة للتعاطي مع حالة استعجالية من هذا الحجم، ومن هذا النوع.
أياما قبل تسجيل الحالة الوافدة الأولى للفيروس، كان المغاربة يتناقلون أخبار الوباء من القنوات الفضائية العالمية بشكل أقرب إلى أعاجيب تحدث في بلاد بعيدة، إلى أن حل الوباء بالبلاد، فكانت العودة "الإجبارية" نحو الفاعل الإعلامي المغربي لمتابعة تطورات الخطر الذي يطرق الباب.
التحدي.. والفرصة
ما يقوله الاقتصاديون عن الأزمة التي تنبت فيها الفرص يصدق في المجال الاعلامي. كان الوباء تحديا غير مسبوق بالنسبة لمشهد إعلامي يطرح العديد من الاشكاليات من حيث رهانات التنظيم والهيكلة وسؤال الوظيفة والمهنية والأخلاقيات وانفجارات العالم الالكتروني. بأي عتاد لوجستيكي، بأي زاوية معالجة، بأي استعداد تنظيمي وموارد بشرية، على أي مسافة من الفاعل الرسمي ومن المجتمع يتعين متابعة أخبار الوباء؟ أما الفرصة فتتمثل في ملايين المغاربة الذين قاموا بالهجرة العكسية من فضائيات كرة القدم والدراما والسينما والطبخ والشبكات الإخبارية إلى قنوات القطب العمومي والصفحات الرقمية للجرائد والمواقع الإخبارية المحلية. ألا يفتح النجاح في تلبية عطش الجمهور للخبر الصادق والسريع والمعلومة النافعة والمعالجة أفقا جديدا لاستعادة الثقة وربح المستقبل؟. ذلك أن الإعلام المغربي في هذه اللحظة كان له امتياز المنافسة التي طالما خسرها في ملفات أخرى مع الشبكات الاعلامية الكبرى. إنه امتياز القرب الذي يجعله أقدر على المتابعة اللحظية للحدث في تفاصيله اليومية وتشعباته الوطنية والجهوية وعلى مخاطبة أوسع الجماهير بقواميس خاصة تعطي للخبر أجنحة تحلق به عبر البيوت.
في ظل استمرار انتشار الجائحة ومعه تواصل المواكبة الإعلامية، من المبكر جرد حصيلة نقدية للمعالجة الإعلامية لكن يبقى من الممكن فرز بعض الاتجاهات العامة التي طبعت حوالي ثلاثة أشهر من العطاء الإعلامي في زمن الأزمة.
ينبغي القول إن الجمهور المغربي المتعطش للمعلومة حول يوميات الفيروس المجهول عاش ظروفا صعبة في الأيام والأسابيع الأولى. كان الارتباك واضحا على مستوى المزودين الكبار، بينما نزق وسائل التواصل الاجتماعي يضاهي سرعة انتشار الفيروس في نشر الفيديوهات والمقاطع الصوتية المضللة والمفبركة، والبلاغات الحكومية المزيفة، التي استدعى بعضها إصدار بلاغات نفي رسمية. وكان على المشهد الاعلامي أن يدفع ثمن فوضى المواقع الاخبارية المتناسلة التي وجدت ضالتها في تلقف هذا النوع من المواد التي تنتشر بسرعة خارقة في الأوساط الشعبية، بل وفي فبركة الكثير منها حصدا لنسب تصفح أعلى.
ويبدو أن هذا التيه الإعلامي خف نسبيا مع استعادة زمام المبادرة لدى الفاعل الاعلامي العمومي الذي وجد نفسه مدعوا إلى هندسة جديدة لمعالجاته الاعلامية بنهج متمايز يستهدف الفئات المختلفة، البسيطة منها التي تطلب مادة خبرية واضحة ومعلومات توجيهية مفصلة حول رهانات العيش في ظل الجائحة، كما المتعلمة التي تنتظر مادة حوارية نقدية تحلل الأبعاد والرهانات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
سباق الإعلام المواطن وإعلام "البوز"*
يشكل النجاح الذي حققه الموعد اليومي الخاص "أسئلة كورونا" على القناة الثانية حالة تستدعي المساءلة والتحليل. من خلال تعمد استخدام لغة دارجة وفتح امكانيات التفاعل بالأسئلة عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، واستضافة شخصيات متنوعة المشارب تغطي مختلف القطاعات التي توجد في مركز السؤال العام حول الجائحة، ناهيك عن النزول الميداني الى الشوارع واللقاء مع الناس واستفسارهم، بنى البرنامج رصيدا قويا من حيث المشاهدة.
لقد أضحى البرنامج نموذجا لما يسمى بالإعلام المواطن، المنخرط في رهان مجهود عمومي للتوعية والتحسيس. والواقع أن الالتفاف الذي يحققه هذا النوع من التجارب الاعلامية لا يجعله منزها عن النقد في ميزان المقاربات النظرية للإعلام التي يرفض كثير منها هذا الانزياح من الوظيفة المجردة القائمة على تقديم مادة إعلامية تنتظم فيها خدمات الإخبار والتعليق والتحليل وفق قواعد معينة، إلى وظيفة تتجاوز هذا المدار، وتنطوي على مزالق تحول الفاعل الاعلامي إلى امتداد للفاعل العمومي في الذهنية العامة، وهو ما وقع في حالة منشط البرنامج الذي اضطر غير ما مرة أمام تهاطل الشكاوى بعدم صرف مساعدات صندوق تدبير الجائحة إلى التأكيد أنه ليس من يقدم المساعدة، وإنما دوره إسماع المطالب إلى المسؤولين. والحال أن المقاربات المتحفظة من هذا الوجه النضالي للإعلام لا تصمد عمليا في لحظات تاريخية بهذا الزخم والضغط وما تفرضه من حالات تعبئة عامة لمختلف مفاصل صناعة التأثير، التي يعد الإعلام أحد أعمدتها.
من جهتها، وسعت الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة مفهوم الخدمة العمومية في هذه الظرفية الاستثنائية وفتحت قنواتها التلفزيونية ومحطاتها الإذاعية أمام مقررات التعليم عن بعد التي أقرتها وزارة التربية الوطنية بعد إغلاق المؤسسات التعليمية.وكانت بحق فكرة خلاقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الموسم الدراسي بغض النظر عن مستوى الفعالية الذي حققته المبادرة.
لقد انفتحت برامج القنوات العمومية في ظل الجائحة على تيارات الرأي من خبراء وشخصيات عمومية وفاعلين في المشهد الاقتصادي والجمعوي، مما صنع لحظات إعلامية غنية بالمحتوى المعرفي والميداني. لكن الملاحظ هو ضعف حضور الفاعل الحزبي في بلورة المقاربات والتصورات عبر الشاشة والأثير بحيث بدا أن الوضع الوبائي مسألة تقنية صرفة وليست موضوعا لنقاش سياسي ممكن.
على صعيد آخر، رفعت وكالة المغرب العربي للأنباء التحدي وهي تعبئ نشرتها المكتوبة- الرقمية ودعاماتها السمعية البصرية لمتابعة لحظية ودقيقة لأهم تطورات الوباء، ليس فقط في مجاله الوطني، بل بوضعه في إطار مقارن يغطي امتدادات الوباء في القارة الافريقية وفي مختلف القارات. كان واضحا مدى تجند الشبكة الدولية والجهوية للوكالة في سياق برمجة تحريرية منسقة للمواكبة التي لم تتوقف عند الخبر والمؤشرات، بل تعززت بإضاءات نوعية من خلال تقارير ميدانية وحوارات مع صناع القرار وباحثين على المستويين الوطني والجهوي وتغطية عن قرب لتداعيات الوباء على مختلف القطاعات. أما نقطة التميز النوعية فيمكن تحديدها في تعبئة الوكالة من أجل محاربة الأخبار الزائفة في صيغة نشرة يومية تتناول "الصحيح والخطأ" في كوفيد 19 بالمغرب.
بالنسبة للصحافة الورقية، ينبغي تسجيل قرار مواصلتها الصدور في صيغة إلكترونية ومجانية، بعد توقف الصدور الورقي، على الرغم من أن الجائحة فاقمت أزمة نموذجها الاقتصادي. وبهذا كانت وفية للمقام الذي تحتله الصحافة الجادة في الأوضاع الاستعجالية داخل البلدان التعددية. ذلك أن الصحافة صنفت في بعض الدول "خدمة طوارئ" تقديرا لأهميتها لدى الرأي العام وصانع القرار على السواء.
هذا وينبغي الإشارة إلى أن قرار تعليق صدور الصحف يبقى محل استفهام، في ظل عدم تأكيد مخاطر انتقال الفيروس عبر عمليات شحن المنتجات الورقية. ودليل ذلك استمرار الإطلالة اليومية للصحافة في البلدان الأكثر تعرضا للفيروس مثل فرنسا وإيطاليا واسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
على صعيد الإعلام الرقمي، لم يحجب التهافت الانتهازي للمواقع غير المهيكلة المجهود الذي بذلته المواقع الرصينة والمرجعية، ولو القليلة، من أجل تقديم الخبر بسرعة وبمصداقية، تستوفي مبادئ التوازن وموثوقية المصدر، واستغلال مرونتها التحريرية في تسليط الضوء على بقع هامشية في المجال التداولي العام حول الوضع الوبائي. في المقابل، واصلت مواقع الإشاعة والتهويل اللعب على أوتار الحساسية العامة والرهاب الوبائي والتسابق على نشر "العاجل" و" والسري" واستباق القرارات نسبة إلى "مصادر مطلعة" وغيرها من فنون انتهاك الأخلاقيات المهنية التي شكلت موضوع تقرير أنجزه المجلس الوطني للصحافة. ولعل "التسريبات" المتضاربة حول تمديد الطوارئ الصحية مثال على الانزلاقات المسجلة في هذا الباب. بل إن تورط بعض المواقع في الترويج للدجل والشعوذة في علاج كورونا يقول الكثير عن الدرب الشاق الذي ينتظر المشهد الاعلامي كي يصبح حليفا للتنوير والتحديث المجتمعي.
يجدر التوقف عند حالة جديرة بالانتباه، كرستها أجواء الوباء في المغرب، وتتمثل في تحول نجوم الصحافة، من منشطين في التلفزيون والإذاعة ومحررين، إلى واجهات إخبارية بامتياز على مستوى التواصل الاجتماعي. فأمام الامتياز الجماهيري الذي تتيحه الوسائط الالكترونية، تنبه هؤلاء الاعلاميون إلى قدرتهم المتنامية على التأثير المباشر من خلال صفحاتهم الشخصية على فايسبوك مثلا، التي تحولت إلى امتدادات لوظيفتهم في القناة أو الاذاعة أو الصحيفة أو الموقع، يغذونها على مدار اليوم بجديد التطورات والمؤشرات. ومما يسجل في هذا السياق، أن هذا الاتجاه نحو "الشخصنة" الاعلامية صب في معظم الحالات نحو تصحيح الأفكار المغلوطة وبث الوعي وتدقيق الأخبار والبيانات.
سؤال الأخلاقيات
تحدث تقرير المجلس الوطني للصحافة حول الأخلاقيات في تناول كورونا عن لجوء بعض المواقع الصحافية إلى "المتاجرة" بموضوع وباء كورونا، حيث نشر أحدها تسجيلا مع سيدة في الشارع العام، يروج للخرافة ويبخس المعطيات العلمية حول المرض، بهدف تحقيق نسب أعلى من المشاهدة. كما نشر أحد المواقع صورة وهوية أحد الأشخاص الخاضعين للفحص، وهو الأمر المنافي لاحترام قواعد الخصوصية. بالإضافة إلى ذلك، سجل التقرير سعي بعض المواقع إلى استغلال انتشار الوباء لتقديم تأويلات وتفسيرات وحكايات عن المؤامرات، لا تستند على أي أساس علمي. ورصد التقرير مجموعة من الخروقات الأخرى لأحكام ميثاق الأخلاقيات المهنية خاصة ما يتعلق بالتضليل والسطو واحترام الخصوصية والحق في الصورة والمعطيات الشخصية والتمييز والكرامة الإنسانية والطفل.
ومن النقاط البالغة الأهمية التي تضمنها التقرير في مقاربته للمعالجة الإعلامية للوباء، إشكالية العناوين. وإذ نعلم أن سوسيولوجيا القراءة تسجل تطورات في فعل استهلاك القارئ للمادة الصحافية، في اتجاه تقشفي ينحو إلى اختصار زمن القراءة من أجل ملاحقة التدفقات المهولة للأخبار، فإن ذلك يرفع أهمية العنوان الصحافي، الذي كثيرا ما يكتفي به ويركن إليه قارئ مسرع لا صبر له على تتبع التفاصيل. هنا، يشيد المجلس بأغلب الصحف الورقية والالكترونية التي حرصت على استعمال عناوين إخبارية أو تقريرية أو مقتبسة، تتناسق في بعدها مع المواد الإعلامية التي وظفت من أجلها. إلا أنه يتأسف، مع ذلك، لخروج عدد من المنابر عن هذه القاعدة، وذلك عبر وضع عناوين مثيرة لا تتناسب مع المادة الإخبارية والركون إلى التهويل والتضخيم والتعبير عن مواقف وأحكام قيمة لا توجد لها أية مبررات أو سند في نص الخبر، مما يمكن اعتباره انزلاقا مهنيا وخرقا للقواعد الأخلاقية وللموضوعية.
لا شك أن تعامل الإعلام المغربي بمختلف أشكاله ومؤسساته مع الحالة الوبائية سيتحول مستقبلا إلى رصيد معرفي وذخيرة من الخبرات والدروس يتعين الانكباب عليها وتثمينها من أجل صياغة خلاصات استشرافية حول سبل تأهيل الفاعل الاعلامي للاضطلاع بدوره المهني المجتمعي في ظروف الأزمات. فالانزلاقات التي سجلت خلال هذه الفترة كشفت مخاطر الفوضى الاعلامية في تدبير الزمن الوبائي، بل امكان تحولها إلى فيروس مواز لا يقل تدميرا عن الوباء، بالنظر الى تفاعله مع الشعور الجمعي الواقع تحت ضغط الرعب.
والواقع أن سبل التأهيل لا تختلف كثيرا عن الضرورات المتعارف عليها سلفا لصناعة مشهد إعلامي قوي بمؤسساته وتأثيره ودوره المجتمعي والتنموي. فثمة حاجة لبناء نموذج اقتصادي متماسك وناجع يضمن الاستدامة والتكيف للمقاولة الاعلامية ويمكنها من مواجهة أزمات على غرار وباء كوفيد 19، ولتكريس الأخلاقيات المهنية كممارسة واعية بغض النظر عن النقاش حول آليات الزجر القانوني للخروقات. في ظل الأزمة بدت الحاجة الى التخصص، في إشارة الى الاعلام الصحي كشعبة إعلامية لها أهميتها من حيث الخدمة الاجتماعية التي تؤديها. وقد غاب عن الصياغة التحريرية عموما هذا الحس الخاص في معالجة المعلومة الطبية وتحويلها من مؤشرات تقنية إلى رسائل منتفع بها من قبل الجمهور. هي إذن بالتالي قضية تكوين وتكوين مستمر للعنصر البشري. تلك عينة من محاور عمل كثيرة يتوقف عليها مستقبل الإعلام في المغرب عموما وإعلام الأزمات بوجه خاص.
وإذ ركزت الورقة على تفاعل الإعلام المغربي مع الزمن الوبائي فإنه من الضروري استحضار زاوية أخرى تؤثر على الأداء المهني الاعلامي، ويتعلق الأمر بمدى تحقق ولوج المعلومة بالنسبة للفاعل الإعلامي لدى السلطات المعنية. وهو أمر ظل محل شكوى المهنيين، إذ لم يخل السلوك الرسمي من ارتباك وتضارب نتيجة غياب تنسيق وثيق في إطار سياسة تواصلية فعالة وشفافة. فالتسريبات والتسريبات المضادة بشأن بعض القرارات الحيوية التي تخص تدبير الجائحة طريق مفتوح نحو الأخبار المغلوطة والتفسيرات المتخبطة التي تشق جسور الثقة مع الرأي العام، عماد نجاح الرسالة الإعلامية.
*المنابر الإعلامية التي توقفت عندها الورقة ليست على سبيل الحصر، إنما هي نماذج تمثيلية لا تنطوي على مفاضلة تجاه نماذج أخرى لم يتيسر رصدها من محطات تلفزيونية وإذاعية أخرى.