Publications /
Opinion

Back
تجربة إعادة الإعمار بعد الصراع في رواندا: بين الدروس المستخلصة وسبل الوقاية
Authors
Imane Lahrich
April 18, 2023

مرت تسعة وعشرون عاما منذ أن انطلقت رواندا في مسار تحقيق المصالحة الوطنية بعد أحداث الإبادة الجماعية التي ارتكبتها حكومة الهوتو الخاضعة لسيطرة المتطرفين، والتي استهدفت أقلية التوتسي خلال مئة يوم إلى حين دخول الجبهة الوطنية الرواندية البلاد. حيث اعتمدت على الآليات المحلية التي جمعت بين المقاربات الشمولية والمحلية القائمة على الثقافة، كما شملت استجابات قضائية وغير قضائية تفاعلية ووقائية، علاوة على إطلاق مجموعة من الإصلاحات الدستورية، المؤسساتية والقطاعية.

غير أن هذا المسار، لم يخل من العوائق المجتمعية الناجمة عن إيديولوجية الإبادة الجماعية والتنميط العرقي والجروح النفسية والجسدية التي لم تلتئم بعد. لذا فإن أهمية الوقوف عند الحالة الرواندية، قد يمكن من استشراف المستقبل على ضوء مجريات هذه التجربة الإنسانية، نظرا للتقاطعات المركبة والتشابك بين الداخل والخارج، وكذلك الصراعات المتفاقمة والأزمات المتنامية في إقليم منطقة البحيرات.

 

مسار المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار

بعدما استتبت الأمور للجبهة الوطنية الرواندية وتم تشكيل حكومة جديدة، انصب التركيز على مسار المصالحة الوطنية من خلال إعادة بناء الهوية الرواندية، وذلك حتى تتمكن من إنهاء الصراع والانتقال لبناء الدولة وإطلاق عملية التنمية. حيث تفهم على نطاق واسع إعادة الإعمار بعد الصراع على أنها عملية معقدة وشاملة ومتعددة الأبعاد لتحسين الظروف الأمنية (استعادة القانون والنظام) والسياسية (الحكامة، التدبير وتقسيم الثروات) والاقتصاد (إعادة التأهيل والتنمية) والظروف الاجتماعية (العدالة والمصالحة).

يشكل التصالح بعد صراع عنيف تحديًا كبيرًا يبدأ وينتهي بالاعتراف التام بالمشاركة في أحداث الإبادة الجماعية كخطوة أولى في نهج التصالح على المستوى الفردي والمصالحة على المستوى الجماعي. وهذا ما حدث في المحاكمات التي أجريت بعد عمليات الإبادة الجماعية في رواندا التي انطوت على المشاركة الفردية والمجتمعية الإلزامية. حيث تم اتهام أكثر من مئة وعشرين ألف شخص بالمشاركة في عمليات القتل. وفي محاولة للمساعدة في حل الأزمة، أوصى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإنشاء محكمة جنائية دولية لرواندا في نوفمبر 1994، واستمرت هذه المحكمة حتى دجنبر 2015. حيث تمت إدانة 61 شخصًا وإحالة عشرة آخرين إلى المحاكم الوطنية، فيما تمت تبرئة 14 متهمًا. رغم أن المحاكمة الدولية استمرت لمدة 5800 يوم وشهدت إدلاء أكثر من ثلاثة آلاف شخص بشهاداتهم، إلا أن أكبر جزء من عملية التصالح في رواندا تم عبر نظام المحاكم المحلية المعروف باسم "محاكم جاشاشا"، حيث يتم التوصل إلى حل المنازعات عن طريق جلب الجناة وجهًا لوجه مع الضحايا والمجتمع لطلب العفو بعد الاعتراف - الشيء الذي أدى إلى تنامي الاهتمام الدولي بالدور المحتمل للآليات التقليدية في استراتيجيات المصالحة والعدالة الانتقالية.

بعد انتهاء الحرب الأهلية في يوليو 1994، كانت رواندا في حاجة لعملية شاملة لإعادة الإعمار في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك لما خلفته الإبادة الجماعية من تدمير للاقتصاد وشيوع حالة من عدم الاستقرار السياسي فضلا عن تدمير البنية التحتية في رواندا، ما سرع عمليات  الإصلاح في جميع المجالات. وفي الواقع أن إن عملية التحول الديمقراطي لا يمكن فصلها على المستويين النظري والتطبيقي عن عملية التحديث والليبرالية في المجالات السياسية والاقتصادية والحريات المدنية. يتضح بذلك أن عملية التحول الديمقراطي يمكن تقسيمها لشقين؛ شق يشمل الإصلاحات السياسية في الدولة، من بينها تحديث الدستور (2003) الذي نص على مساواة الحقوق بين جميع الروانديين، إصدار قوانين تجرم التمييز وأيدولوجية الإبادة الجماعية، منع وتجريم استخدام ألفاظ الهوتو و التوتسي بموجب القانون الجديد، كما تم تجريم أي خطاب له طابع عرقي. أما الشق الثاني فهو مرتبط بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتي تضمنت مجموعة من الأهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد؛ ركزت الأهداف القصيرة منها على تشجيع الاستثمار، تكوين الثروات بما فيها الرأسمال البشري والتكنولوجيا الحديثة، تقليل الاعتماد على الديون الدولية، في حين أن الأهداف المتوسطة ركزت على  الانتقال بالاقتصاد الزراعي من الطريقة التقليدية إلى الطريقة العلمية المعاصرة من خلال توظيف التعليم والتكنولوجيا والاتصالات، أما الأهداف طويلة الأمد فقد ركزت على تقليص الفوارق الاجتماعية، محاربة الفقر و خلق طبقة وسطى منتجة تساهم في تطوير الاقتصاد.

من الواضح أنه لا يمكن أن تنجح العدالة الانتقالية في تحقيق أهدافها الأكثر إلحاحا بدون تغيير هيكلي جذري في فهم أسباب ومخلفات الصراع من أجل دعم عملية التغيير، ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع بالضرورة فرض تغييرات هيكلية أو تنفيذها أو إزالة أسباب الانتهاكات بمفردها. وبالتالي فضخ الجهود في إعادة الإعمار لا يمكن أن يرتكز فقط على مسار المصالحة الوطنية والعدالة باختزالهما في سرديات تشكيل الوحدة الوطنية في رواندا. لذلك فإن التحول الديمقراطي بإصلاحاته الدستورية والاجتماعية والاقتصادية لن يصل مغزاه دون الوقوف عند الإصلاح الإداري الذي من شأنه تنفيذ أية خطة أو سياسة تنموية. إذ تقاس هذه الأخيرة بالتقدم التي تحرزه الدولة في إصلاح جهازها الإداري من خلال مؤشرات تنمية الموارد البشرية، الحكامة لدعم تحسين تقديم الخدمات ومشاركة المواطنين في عملية تخطيط التنمية ومحاسبة المسؤولين، بناء الثقة، ومكافحة الفساد، إلى غير ذلك.

وعليه، فإن مأسسة الإعمار بعد الصراع وتدويل مسار المصالحة في أفق إقرار الوحدة الوطنية يشير إلى أن أي مصالحة مرغوبة وفعلية ترتبط بالاستعداد الكامل للتعامل مع الحقائق والتعويض إلى أقصى حد ممكن، وذلك بالإجابة على السؤال الدائم حول مآل المجتمعات التي عاشت حالات الحروب والاضطهادات، كيف سيتم سرد التاريخ في المستقبل وكيف سيتم استشراف المستقبل في الحاضر بناء على دروس التاريخ. فالمصالحة تمثل الخطوة الأولى للاتفاق على رواية واحدة لتلك الفترة من التاريخ، ومن ثم البدء في كتابة فصل جديد. ولكن يظل اختزال الناس في مجتمع ما في ذاكرة ورواية وحقيقة واحدة ووحيدة من أشد الأخطار التي يمكن أن تواجه المجتمعات في تحديد وإرساء مرجعياتهم وهوياتهم عندما تكون متعددة.

 

بين آليات الدبلوماسية الوقائية وسبل منع الصراع

بينما يتفاعل العالم مع الحروب والنزاعات المستمرة في أوكرانيا، إثيوبيا، جنوب السودان، اليمن، منطقة الساحل، ومناطق أخرى، قد نتساءل كيف يمكن للمجتمع بمؤسساته ومنظماته ونخبه منع نشوب نزاعات جديدة كما حدث في أعقاب الإبادة الجماعية في رواندا، حيث إن مخلفات هذه الإخفاقات في عمليات الوقاية يمكن أن تشكل فرصة لمراجعة الدروس المستخلصة من هذه التجربة. إذ أن هذه الأخيرة كشفت عن أوجه الضعف في قدرة المؤسسات الدولية ومتعددة الأطراف على منع حدوث مثل هذا العنف أو التصدي له، كما أثارت أسئلة مقلقة حول الرغبة الدولية في القيام بذلك آنذاك.

من بين أهم الآليات الوقائية لمنع الصراع: يُعد الاستثمار الجاد في أنظمة الإنذار المبكر وربطها بعمليات التتبع وإدارة التوقعات إحدى الطرق الملموسة لعدم الوقوع في إخفاقات الماضي. بمعنى آخر، يتم تقييم التهديدات المتعلقة بالإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة أولاً من خلال البيانات الموثوقة التي تمهد وتدعم صنع القرار على جميع مستويات منظومة الأمم المتحدة وغيرها من خلال أنظمة الإنذار المبكر، حيث تخول هذه الآلية فهم السلوكيات التي تخلق الظروف المؤدية إلى ارتكاب النزاعات واستتاب حالات عدم الاستقرار. وبالتالي، فإن توافر البيانات يدعم آلية الإنذار المبكر التي تساعد على تعبئة المنظمات الدولية والجهوية ودولها الأعضاء لاتخاذ إجراءات فعالة، استجابة للحالات التي يتعرض فيها السكان لخطر ارتكاب جرائم فظيعة كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب أو حيثما تكون مظاهر النزاعات قابلة للنشوب.

إن فصل مؤشرات الإنذار المبكر وإمكانيات الاستجابات المناسبة قد لا يقتصر تفسيره على الفجوة بين ترقب الصراع ومنعه، إذ يحيلنا إلى ما يتعدى معطيات منحنيات نشوب الصراع وهو كيفية التعامل مع التحذير من التهديدات الناشئة. بتعبير أدق، في مرحلة مبكرة من تطورها، قد لا يُنظر إلى مثل هذه الحالات الطارئة على أنها تهدد أمن المجتمعات واستقرار الدول، كما قد يصعب التنبؤ بالصراع في بدايات مراحله، أو حتى أنه من المرجح أن تظل بعض الأحداث مبهمة على الرغم من الجهود المبذولة لتحسين مؤشرات الإنذار المبكر بشأن حالات الصراع المحتملة. لا يعني ذلك أنه لا يمكن تحديد بؤر التوتر الرئيسية المحتملة؛ بدلاً من ذلك، تكمن المشكلة في فهم سياقات استتاب الاضطرابات للتنبؤ بها وقابلية إدارتها. وعليه، فإن إشكالية ترقب وتحليل الإنذارات يجب أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديد الاستجابات المناسبة والاستعداد لها في ضوء ما هو متاح رغم عدم استكمال صورة الخطر.

أخيرا، من المتفق عليه أن تشكيل السياسات لا يقف عند وجود الهياكل الأساسية للسلطة، بل لا يتحقق إلا بوضع الخيارات السياسية الأنجع داخل الإطارات المؤسساتية، وهذا ما يحيل إلى دور صانع القرار في مسار الانتقال الديمقراطي. بالنظر إلى طبيعة هذه الخيارات في التجربة الرواندية، يبقى السؤال حول مدى تلقي واستيعاب إشارات كانت واضحة، مخفية أو غير مفهومة، منها ما هو هيكلي، ايديولوجي، إثني، سياسي، مجتمعي، اقتصادي، وحتى ثقافي وبيئي إذ اعتمدنا عدم تراتبية أجيال القوانين.

وعليه، فالتفكير المتناسق على مستوى السياسات وأوراش التنمية في مسار إعادة الإعمار بعد الصراع، إضافة إلى تنسيق الدعم بين الجهات الفاعلة الوطنية والمانحين الدوليين لعمليتي بناء الدستور والعدالة الانتقالية، قد يشجع على المزيد من الإرادة السياسية نظرا لازدواجية هذا الانتقال. فمن جهة يمكن الإعمال بالتوصيات الخاصة بالإصلاحات المؤسساتية التي يجب مراعاتها أثناء الإصلاحات الدستورية. كما يمكن من جهة أخرى الاعتماد على عملية بناء الدستور لتوفير ضمانات للجهات الفاعلة من أجل ضمان مشاركتها في عمليات العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار بعد الصراع. وبالتالي، تقتضي الأصول المشتركة لعمليتي بناء الدستور والعدالة الانتقالية في التسوية السياسية الكامنة وراء ضرورة الحفاظ على زخم العملية الانتقالية التعامل بمرونة مع أولويات الاستجابة السياسية، استدامة مخرجاتها، والاستعداد لإدارة الاضطرابات المحتملة.

 

RELATED CONTENT

  • October 21, 2022
    The sixth African Peace and Security Annual Conference (APSACO) was held on July 20-21, 2022, under the theme 'African Security in Times of Uncertainties'. The two-day event was composed of five panels and one report discussion.  • Panel 1: The Impact of the Russia-Ukraine War on Africa • Panel 2: Conflict Resolution and w in Africa • Panel 3: The Worsening of the Food-Security Challenge in Africa • Panel 4: Security Implications of Climate Change in Africa • Panel 5: African F ...
  • Authors
    September 30, 2022
    Lorsque l’URSS (Union des Républiques socialistes soviétiques) est démantelée ; il s’installe en Occident un sentiment de victoire définitive qui porte au trône du monde la puissance occidentale, démocratique et libérale. La mondialisation, qui avait timidement pointé du nez durant les années 80, commence à s’ériger en occidentalisation du monde. L’Occident n’avait pourtant pas su gérer sa victoire. Au lieu d’intégrer le continuateur de l’URSS, il le marginalise et l’ ...
  • September 1, 2022
    Dans cet épisode Lassina Diarra et Abdelhak Bassou échangent sur le caractère religieux des violences en Afrique de l'ouest. Ils y discutent des implications politiques et des fondements de ces violences ainsi que des causes de leurs résurgence. ...
  • Authors
    Laura Sanders
    Jordan Moss
    August 9, 2022
    Communities in northern Côte d’Ivoire report an ongoing pattern of questioning, ethnically- motivated arrests, and abuse, in contrast to the good relationships with local forces and police they had until two years ago*. In one case, the national army arrested a number of men, beat them, and held them for up to two months**. In response to extremist attacks, Côte d’Ivoire has increased the military presence in the north, creating a special forces’ base and sending more military per ...
  • August 5, 2022
    Le conflit russo-ukrainien fragilise la sécurité alimentaire d'un grand nombre de pays africains, la Russie et l'Ukraine étant deux acteurs majeurs du marché agricole mondial, particulièrement celui du blé. C'est pourquoi, l'approvisionnement en blé du continent est au premier rang concerné par ce conflit qui perdure, dont le premier enseignement concerne le risque de non approvisionnement, en blé russe et ukrainien, des pays qui en sont le plus dépendants. Cette étude montre qu'il ...
  • Authors
    August 3, 2022
    The timing was perfect for analyzing the “African Security in times of uncertainties”. The Rabat-based “Policy Center For The New South” programmed its  6th “African Peace d Security Annual Conference” (APSACO) on July 20/21 to focus on the historic challenge of our time-the world,  Africa in particular, struggling to find stability while war s waged in Central Europe, and 25 million tons of wheat and fertilizers needed to feed the starving population, millions on the African contin ...
  • July 22, 2022
    L'ancienne secrétaire d'État chargée des Affaires étrangères et des Droits de l'homme, Rama Yade, met le point sur la position de l’Europe face aux difficultés de l’Afrique en temps d’inc ...
  • July 21, 2022
    2021 was a year of global geopolitical disruption and geo-economic upheaval. As events gather momentum, the world enters a period of geopolitical and geo-economic transition; the end of one historical cycle foreshadowing the uncertain prospects of a new one. We are henceforth, in presen...