Publications /
Opinion
تعج وسائل الاعلام في لبنان،وحتى خارجه, بأرقام ومعطيات حول تواجد اللاجئين السوريين في مختلف مدن البلاد. في ظل انعدام ارقام رسمية عن العدد الحقيقي لهؤلاء اللاجئين، تزدهر الأخبار الكاذبة والمعطيات المغلوطة عن العائلات التي ارتأت الهروب من بلدها الأم الذي يرزح تحت وطأة حرب، دفعت بالسوريين خارج بلادهم منذ اندلاع الثورة السورية سنة 2011. ومنذ ذلك الحين، لا تزال سوريا تعرف أكبر أزمة لاجئين في العالم حسب تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR). فحسب ذات المصدر، أُجبر أكثر من 6.8 مليون سوري على الفرار من بلادهم منذ عام 2011 ولا يزال 6.9 مليون شخص آخر نازحين داخليًا. الغالبية العظمى - حوالي 5.2 مليون لاجئ - وجدوا ملاذاً في البلدان المجاورة، ولا سيما في تركيا ولبنان والأردن. ألمانيا هي أكبر دولة مضيفة غير مجاورة ، حيث يوجد بها أكثر من 620 ألف لاجئ سوري.
يهدف هذا المقال الى التطرق الى وضعية اللاجئين السوريين في لبنان، بهدف تسليط الضوء على ظروفهم المعيشية، التحديات المرتبطة بالاندماج وآفاق العودة، في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلد المضيف وتنامي المشاعر المعادية للاجئين.
مخرجات هذا المقال هي نتاج سلسلة من المقابلات والزيارات لمختلف المؤسسات والأطراف الناشطة في مجال اللجوء في مدينتي بيروت وطرابلس، في إطار برنامج بحثي معد من طرف مؤسسة فريدريش ناومان للحرية بمشاركة مجموعة من الباحثين، أوربيون، عرب وأفارقة، من ضمنهم باحثون من مركز السياسات من اجل الجنوب الجديد.
هذا المقال لا يعبر على الآراء الشخصية للباحث، بل يعكس خلاصة المقابلات والأحاديث التي اجريت مع مختلف الأطراف المعنية بمسألة اللجوء والهجرة من منظمات غير حكومية، جمعيات المجتمع المدني، شخصيات سياسية ومنظمات دولية.
السوريون في لبنان:
تواجد الجالية السورية في لبنان لا يقتصر على زمن بعد الثورة، وانما يعود لعقود طويلة، شهدت ارتباط مصير البلدين ببعضهما البعض. في ظل الإمبراطورية العثمانية، تم تضمين لبنان وسوريا في كيان إداري واحد قبل أن يضع انتداب عصبة الأمم سوريا الكبرى العثمانية تحت السيطرة الفرنسية، بعد الحرب العالمية الأولى، مما أدى في النهاية إلى إنشاء دولتين قوميتين لبنان وسوريا. في هذه الأثناء كانت العلاقات التجارية والمدنية بين محافظات الأراضي الحالية في سوريا ولبنان طبيعية ونمت الروابط الإنسانية بعد ذلك. خلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، هاجر العديد من العمال السوريين إلى لبنان مع وصول الكاثوليك من حلب في الخمسينيات، حيث أصبح بعضهم مصرفيين وتجارًا أثرياء في لبنان. كما شغل العديد من رجال الأعمال السوريين تدريجياً مناصب مؤثرة في مجالات التمويل والعقار في البلد.[1]
لكن العلاقات بين البلدين توترت، خاصة مع التواجد السوري في لبنان اثناء الحرب الأهلية التي عرفها البلد في سبعينيات القرن الماضي، والتي دامت زهاء خمسة عشر سنة، عاشت فيه لبنان تحت وطأة توترات طائفية كان لها أثر عميق على البلد. ذات الحرب مكنت سوريا من التواجد عسكريا في لبنان اذ كانت القوات السورية تشكل الجزء الأكبر من قوة حفظ السلام التابعة للجامعة العربية المرسلة الى لبنان، قبل انسحابها سنة 2005، على ضوء قرارا مجلس الأمن 1559 و1701 بشأن لبنان اللذان نصّا على احترام سيادة لبنان وسحب القوات الأجنبية، السورية على وجه الخصوص.[2]
لكن على الرغم من التوترات السياسية التي شابت العلاقات بين البلدين في فترات مختلفة، أن ارتباطهما اقتصاديا وعلى صعيد العلاقات الانسانية ضل وثيقا. اذ لطالما أعتبر لبنان منفذاً هاماً لفائض العمالة السورية، حيث يقدر عدد العمال السوريين الدائمين في لبنان بنحو 300 ألف عامل ويرتفع الرقم إلى مليون عند تضمين العمال الموسميين الذين يأتون إلى لبنان للعمل في مشاريع البناء وفي القطاع الزراعي. فقد لعب العمال السوريون دورًا حاسمًا في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية.
ما بعد الحرب السورية: بروز اشكالية تهديد النسيج الاجتماعي للبلد المضيف
وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هناك حوالي815.000 لاجئ سوري مسجل في لبنان. لكن الأرقام المتداولة، بين بعض الهيئات الحكومية وكذا موقع «الحماية المدنية الأوروبية والمساعدات الإنسانية "[3] تشير الى مليون ونصف لاجئ سوري. بالنظر الى تعداد هذا البلد الذي لا يكاد يصل سقف الستة مليون نسمة، يكون بهذا لبنان البلد الذي يستضيف أعلى عدد من اللاجئين بالنسبة للفرد في العالم، مع احتساب باقي اللاجئين المقيمين بالبلد من فلسطين والعراق. بالنظر لخاصيات المجتمع اللبناني والمكانة التي يحظى بها الانتماء الطائفي والديني الذي يلعب دورا مهما في العلاقات بين مختلف دوائر القوة، فإن عبارة "النسيج الاجتماعي" برزت بقوة في مختلف المقابلات التي اجريناها خلال هذا البحث الميداني بلبنان.
النسيج الاجتماعي يشير إلى الهيكل والتركيبة الاجتماعية للمجتمع، وكيفية تفاعل أفراده ومجموعاته مع بعضها البعض. يتكون النسيج الاجتماعي من العلاقات والروابط الاجتماعية، والقيم والمعتقدات المشتركة، والمؤسسات والهياكل التي تنظم التفاعلات الاجتماعية في المجتمع ويشمل الأسرة، والأصدقاء، والجيران، والمجتمعات الدينية، والمجتمعات المهنية، والمؤسسات الحكومية، وغيرها من التركيبات الاجتماعية المختلفة. لهذا فالنسيج الاجتماعي يعزز التكامل والانتماء الاجتماعي، ويؤثر في سلوك الأفراد وتشكيل هويتهم الاجتماعية، ويساهم في بناء وتطوير المجتمعات بشكل عام.
في سياقات الهجرة واللجوء لطالما برزت اشكالية الخوف من تهديد البنية المجتمعية، او النسيج الاجتماعي كإحدى أبرز دوافع تنامي مشاعر الكراهية ضد اللاجئين، اذ يشعر افراد المجتمع المضيف بان الخصائص المجتمعية والثقافية لبلدانهم تصبح مهددة في حال توافد أعداد كبيرة من اللاجئين او المهاجرين، سيما إذا ترافق هذا التوافد مع ظروف معينة كالتي يمكن رؤيتها حاليا في لبنان: ضعف التعداد السكاني للمواطنين الأصليين وتوالي الأزمات الاقتصادية والمجتمعية.
أحد الباحثين الذي تمت مقابلته ورفض ذكر اسمه، من المطلعين على الخصوصيات الثقافية والمجتمعية في لبنان، أشار الى كون تواجد اللاجئين السوريين في لبنان قد يولد عند بعض اللبنانيين مخاوف بشأن استمرار التوازن الديني/الطائفي بالبلد، المنظم بوثيقة العيش المشترك التي تبنتها مختلف مكونات الشعب اللبناني لوضع حد للحرب الأهلية، وضمان تعايش المسيحيين والمسلمين اللبنانيين وتوازن القوى السياسية. هذا التهديد قد يكمن في مخيلة البعض من خلال تزايد أعداد السكان المسلمين في البلاد الوافدين من سوريا التي تعتبر بلدا ذو غالبية ساحقة مسلمة. أشار هذا الباحث الى أن هذا الهاجس كان دائما حاضرا حتى عندما كان لبنان يعرف تواجدا كبيرا للاجئين الفلسطينيين، اذ غالبا ما كان يسهل اندماج المسيحيين الفلسطينيين مقارنة بغيرهم.
تنامي الأخبار الكاذبة وازدياد المشاعر المعادية للاجئين
خلال المقابلات التي أجريناها مع ممثلي المفوضية السامية لشؤون للاجئين بكل من بيروت وطرابلس، كان هناك اتفاق حول اشكالية تنامي الأخبار الكاذبة حول الظروف المعيشية للاجئين السوريين ومبالغ الدعم المباشر التي يتلقونها من المفوضية السامية. لقد وقفنا على الاكراهات التي تواجه عمل هذه المنظمات، اذ أصبحت أكثر عرضة للانتقادات من طرف الساكنة المحلية، التي تعتبرها من أبرز عوامل استمرار توافد اللاجئين بلبنان، باعتبارها المؤسسة الرسمية التي تعنى بشؤون اللاجئين، مما يؤثر سلبا على عمل المفوضية، بالرغم من غياب اي اعمال عنف من شأنها المساس بأمن وسلامة المؤسسة او مستخدميها و مستفاديها، وبالرغم من دعم الجهات الحكومية للمفوضية بطرابلس.
من بين أهم تداعيات انتشار الأخبار الكاذبة، ان الشائعات تنتشر حول تلقي كل اللاجئين الدعم المالي المباشر من طرف المفوضية، والعمد الى تضخيم حجم هذه المبالغ، التي لا تتعدى في الواقع سقف 200 دولار أمريكي للعائلة متعددة الافراد والتي ينبغي ان تتوفر فيها شروط معينة، حتى تتمكن من الاستفادة من البدل المعيشي واعانة التغذية. كخطوة لتخفيف الضغط على طوابير الانتظار امام المصارف اللبنانية، ارتأت المفوضية صرف البدل المعيشي للأشخاص المعنيين بالعملة الأمريكية، لكن هذا القرار ادى الى ازدياد المشاعر المعادية للاجئين الذين أصبح ينظر إليهم من طرف البعض على كونهم يتمتعون بظروف أحسن من بعض المواطنين اللبنانيين الذين يتعين عليهم تحمل التقلبات الكبيرة لصرف سعر الليرة اللبنانية الى الدولار، سيما ان الليرة اللبنانية انهارت منذ ازمة المصارف التي عرفها البلاد سنة 2019. في 2023 وصلت قيمة الليرة اللبنانية إلى انخفاض تاريخي مع استمرار الأزمة الاقتصادية في البلاد. فبعد أن كان دولار امريكي يصرف ب 1500 ليرة لبنانية في 2019، أصبح الآن يتعين على المواطن اللبناني بذل أكثر من 15.000 ليرة مقابل دولار أمريكي واحد. في ظل هذه التحديات، أصبح عمل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان يصب اساسا في منحى "إعادة توطين اللاجئين" من خلال تسهيل سفرهم لبعض الدول الاوروبية الراغبة في استقبالهم، على رأسها المانيا، او تشجيع العودة الارادية الى سوريا، بالرغم من انه من الصعب الجزم بأن خيار العودة قد يكون آمنا. فتسهيل الاندماج في البلد المضيف، الذي يعتبر عادة من اهم محاور تدخل مفوضية شؤون اللاجئين لم يعد متاحا بالنظر الى تنامي المشاعر المعادية للاجئين بلبنان.
إحدى أهم التحديات الأخرى التي تواجه القائمين على شؤون اللاجئين بلبنان تكمن في التراجع في امدادات الدول المانحة بما يقارب 25% مقارنة بالسنة الماضية، حسب ممثلي المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، هذا التراجع ينعكس مباشرة على كمية الخدمات الاساسية المقدمة للاجئين، اذ اضحى من الضروري الخفض من مصاريف تغطية بعض الامراض كنقص النظر مثلا، من أجل تغطية الخصاص في الميزانية المتوفرة.
على الصعيد الاداري والمؤسساتي، اثار اهتمامنا خلال اجراء هذا البحث الميداني عاملين اساسيين مؤثرين في الظروف المعيشية للاجئين السوريين:
1ـ وقف عمليات تسجيل اللاجئين من طرف الحكومة اللبنانية منذ سنة 2015، اذ ان المفوضية السامية للاجئين تقتصر على تعداد وأخذ بيانات الوافدين بعد 2015 دون التمكن من تسجيلهم، في انتظار قرار اعادة فتح التسجيل من طرف الحكومة اللبنانية. للإشارة، لبنان ليس بلدا موقعا على اتفاقية جنيڤ حول حماية حقوق اللاجئين وتحديد التزامات الدول تجاههم، بل يتوفر على قوانين محلية في التعاطي مع شؤون اللاجئين.
2ـ خطر الهدر المدرسي للأطفال السوريين في سن التمدرس، اذ تعتمد لبنان نظام التناوب في المدارس الحكومية يخول للاجئين ولوج الفصل المدرسي من الساعة الثالثة زوالا الى الساعة السادسة، بعد انتهاء مدة دراسة الاطفال اللبنانيين، نظرا لتباين المناهج المدرسية، وكذا المتطلبات اللغوية، على اعتبار استعمال اللغة الفرنسية كإحدى اللغات الاجنبية في لبنان، بخلاف سوريا. غير ان مختلف الجهات التي قابلناها أكدت محدودية هذا النظام من حيث التعلم، وقد أكد هذا كذلك بعض اللاجئين الذين تمت مقابلتهم في مدينة طرابلس.
الخلاصة
يعيش اللاجئون السوريون حاليا في لبنان مجموعة من التحديات مرتبطة أساسا بضعف افاق الاندماج في المجتمع المضيف، نظرا للأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها لبنان، وكذا بالنظر الى ازدياد المخاوف محليا من امكانية تأثر النسيج الاجتماعي للدولة وتغير التوازن الطائفي بها، جراء توافد عدد كبير من المسلمين السوريين الى البلاد، في دولة لا يتعدى تعداد سكانها الست مليون نسمة، وفي ضل تراجع معدل الولادات بلبنان. كل هذه العوامل ادت الى تنامي المشاعر المعادية للاجئين، وتضييق افاق استقرارهم بلبنان، مما يؤدي الى تزايد محاولات الهجرة غير النظامية في اتجاه البلدان المجاورة، سعيا في الاستقرار بأوروبا في نهاية المسار.
[1] Institut de Recherche et d’Etude Méditerranée, Moyen ـOrient, Le Liban et la Crise Syrienne
[2] Perspectives Mondes : Résolutions 1559 et 1701 du Conseil de sécurité des Nations Unies sur le Liban
[3] European Civil Protection and humanitarian Aid Operation, link: https://civil-protection-humanitarian-aid.ec.europa.eu/where/middle-east-and-northern-africa/lebanon_en#:~:text=People%20in%20need%20of%20humanitarian,211%2C000%20Palestinian%20refugees%20https://www.iom.int/key-migration-terms