Publications /
Opinion
ربما شكّلت نتائج الانتخابات الأمريكية مفاجأةً للعديد من المراقبين، حيث أظهرت العديد من الدروس المهمة حول التحولات الجديدة المرتبطة بإدارة الرأي العام وقدرة هذا الأخير على التعبير عن توجهاته بطرق قد تكون مدهشة، خاصة للمتخصصين في مجال ما يُطلَق عليه "علم اتجاهات الرأي العام" "، الذي يتسم بأساليب معقدة من الحيل والخدع والتضليل . وقد شكّل دونالد ترامب تحديًا كبيرًا أمام وسائل الإعلام، خصوصًا تلك التي تُحسب على التيار الديمقراطي والتي سعت جاهدة شيطنته وإقصاءه من المشهد الإعلامي. لكن، رغم تلك المحاولات، لم يستسلم ترامب للضغوط أو الحملات التشهيرية، بل استطاع أن يكسب تعاطف فئة واسعة من الناخبين الأمريكيين، مظهراً قدرته على مقاومة الضغوط المتنامية
انتهت الانتخابات بفوز كبير للمرشح الجمهوري دونالد ترامب. وقد جاءت عودته للرئاسة لعام 2024 بعد تجربة استمرت لأربع سنوات حافلة بالتحديات، بدءًا من جائحة كوفيد-19, مرورًا بالملاحقات القانونية حيث خاض العديد من المعارك القانونية والتشهير الإعلامي، وصولًا إلى التحديات الجسدية المرتبطة بمحاولات تصفيته، وكدى تقدمه في السن.
خلال هذه السنوات، تمكن ترامب من التأثير بشكل كبير في هيكلة الحزب الجمهوري بعد مرور 170 سنة على تأسيسه ( 1854-2024)، مسهمًا في تغيير العديد من رموزه واستراتيجياته وأسلوب أدائه، مما يدفعنا للاعتقاد بأننا أمام نسخة جديدة من ترامب، أُطلق عليها "ترامب 2.0"، وحزب جمهوري مطور يختلف عن السابق.
لقد جاء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية بعد حملة انتخابية ساخنة ومشحونة، تميزت بخطاباته الاستفزازية التي لم تتوانَ عن إثارة مشاعر قوية لدى مؤيديه ومعارضيه على حد سواء.. تركت عوامل عديدة بصمتها وأثرت على تطور شخصيته السياسية، من بينها تقدمه في العمر، تأثير جائحة كورونا، إلى جانب المتغيرات التقنية في مجال الذكاء الاصطناعي وانعكاساتها على الحوكمة العالمية. فقد تعرض ترامب منذ عام 2020 لسلسلة من المحاكمات القضائية، والملاحقات من قبل أجهزة إنفاذ القانون، ووسائل الإعلام، وهي تجارب أضافت أبعادًا جديدة لصورته السياسية وقد تُساهم في تشكيل نسخة جديدة من شخصيته العامة، نسخة تأثرت بمعارك لا تُعَد ولا تُحصى، مما يُعزز فرضية أنه الآن بات أكثر براغماتية واستعدادًا لمواجهة التحديات بطرق ربما ستكون أكثر تعقيدًا ودهاءً.
وشهد الحزب الجمهوري تحولات كبيرة منذ تأسيسه عام 1854، حيث تركت كل حقبة قيادية والتغيرات الاجتماعية بصمات واضحة على مبادئه وقاعدته الشعبية. تأسس الحزب في البداية لمكافحة توسع العبودية وسرعان ما برز كقوة سياسية تحت قيادة أبراهام لنكولن، مما رسخ مكانته في السياسة الأمريكية من خلال الدور الذي لعبه في الحرب الأهلية وإلغاء العبودية. في أوائل القرن العشرين، واجه الحزب انقسامًا داخليًا عندما أسس ثيودور روزفلت حزب التقدميين، مما كشف التوترات بين الإصلاحيين والمحافظين. وفي الستينيات، ساهمت تشريعات الحقوق المدنية واستراتيجية الجنوب في تحويل قاعدة الحزب نحو الولايات الجنوبية، حيث جذب الناخبين البيض الذين أيدوا حقوق الولايات والسياسات الاقتصادية المحافظة. كما أن القضايا الاجتماعية، مثل الإجهاض، عززت القاعدة المحافظة للحزب، خاصة بين المسيحيين الإنجيليين. وفي الثمانينيات، جاءت حقبة رونالد ريغان لتعيد صياغة أجندة الحزب حول الحكومة الصغيرة والاقتصاد الحر والدفاع القوي، مما جعل "المحافظة" محور أيديولوجيته. استمرت هذه الأسس في تشكيل هوية الحزب وتوسيع قاعدته في الجنوب والسهل العظيم وجبال الغرب والمناطق الريفية في الشمال خلال القرن الحادي والعشرين.
كان ترشيح دونالد ترامب في عام 2016، قد أدخل الحزب الجمهوري في منعطف أيديولوجي جديد. فقد أحدث خطابه الشعبوي، وسياساته الاقتصادية الوطنية، إلى جانب جاذبيته القوية لدى قاعدة واسعة من الناخبين الساخطين، تغيرًا جوهريًا على القيم المحافظة التقليدية للحزب. أدى ذلك إلى انقسام داخلي بين مؤيدي ترامب، الذين تبنوا رؤيته المتمثلة في "أمريكا أولاً" ذات الطابع القومي اليميني، ومعارضيه من المحافظين المعتدلين و التقليديين.. وقد أعاد ترامب تشكيل الحزب مما عزز هيمنة ليصبح أكثر ارتباطًا بالنزعة الشعبوية والقومية،، وزاد من التصدعات الداخلية، لكنه في الوقت نفسه نجح في حشد قاعدة ناخبة موالية بقوة. مع ترشح ترامب لولاية ثانية واجه الحزب أزمة أخرى ، فشل خلالها في انتزاع الأصوات من منافسه بايدن، نتجت عنها تداعيات كادت تخرج الأداء السياسي الأمريكي عن قواعده الديموقراطية العريقة.
بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة، أصبح الحزب الجمهوري أكثر توجهًا نحو "الترامبية"، متبنيًا قيمًا قومية وشعبوية أعمق. عزز هذا الفوز هيمنة ترامب على الحزب، ، حيث قاد ما يمكن وصفه بـ"ترامب 2.0" الذي يعيد تشكيل هوية الحزب وفق رؤيته الخاصة بدلًا من القيم التقليدية السائدة سابقًا. وتركز أجندة الحزب الجديدة على قضايا مثل تعزيز الوطنية، دعم الاقتصاد المحلي، ومكافحة الهجرة، مبتعدًا عن السياسات التقليدية للسوق الحرة لصالح سياسات تدعم الصناعة الأمريكية وتشجع توظيف العمالة المحلية. يشهد الحزب تحوّلًا واضحًا نحو اليمين القومي، بفضل دعم قاعدة واسعة من الناخبين الساخطين على النخب التقليدية، والذين ينجذبون إلى خطاب قومي يعبر عن مخاوف الطبقة العاملة والمتوسطة. في ظل ولاية ترامب الجديدة، أصبحت هوية الحزب ذات طابع قومي وشعبوي أكثر وضوحًا، حيث تبنى الحزب نهجًا أكثر استقلالية في السياسة الخارجية، مبتعدًا عن دعم العولمة لصالح سياسات حماية الاقتصاد الوطني، وتشجيع الصناعات الوطنية، وزيادة الصادرات، مع تشديد الضوابط على الاستيراد. تتزايد اعتماد الحزب على خطاب شعبوي يستجيب لتطلعات قاعدته الموالية، التي أصبحت تشكل العمود الفقري له، مما أدى إلى تراجع تدريجي في السياسات التقليدية المتعلقة بالحريات الفردية والسوق الحرة، ليصبح الحزب الجمهوري في صورته الجديدة حزبًا محافظًا قوميًا وشعبويًا، يعكس رؤية ترامب القومية ويتماشى مع توجهات الناخبين الذين يرون فيه رمزًا للتغيير ومعارضة التيار التقليدي.
الملامح العامة لسياسة ترامب الخارجية: الثابت و المتحول
تنقسم آراء المحللين والخبراء حول السياسة الخارجية لدونالد ترامب إلى ثلاثة توجهات رئيسية توضح تباين الرؤى حول تأثيره ودوره في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية:التوجه الأول يرى أن نهج ترامب كان نفعيًا وبراغماتيًا، ويركز بشكل أساسي على تحقيق المنافع الاقتصادية والمادية للولايات المتحدة، كما تجلى في شعاره "أمريكا أولاً". أما التوجه الثاني فيؤكد أن ترامب لم يرسم السياسة الخارجية الأمريكية بنفسه، بل نُسب جزء كبير منها إلى شخصيات مؤثرة مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشاره جاريد كوشنر، والتي كانت قادرة على تمرير مخططاتها على الإدارة الأمريكية. بينما يعتبر التوجه الثالث أن السياسة الخارجية الأمريكية هي تفاعل معقد بين مؤسسات مختلفة، تشمل البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية ومجلس الأمن القومي مما يجعلها نتاج منظومة أكثر من كونها قرارًا فرديًا.
اتجاهات محتملة للسياسة الخارجية لترامب 2.0:
منذ الإعلان عن فوز دونالد ترامب بالانتخابات لولاية رئاسية ثانية، ظهرت العديد من التحليلات والتوقعات حول أثر ذلك على السياسة الخارجية الأميركية وعلى النظام الدولي ككل. لفهم توجهاته المحتملة في السياسة الخارجية، لابد من إعادة قراءة أدائه خلال ولايته الأولى ، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي شهدها العالم خلال السنوات الأربع المنصرمة، كما يجب تقييم أوجه الضعف في أدائه السابق، مثل توتر العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، وكذا أوجه القوة، مثل موقفه الحازم تجاه الصين ونجاحه في تحجيم نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية.
لكن تبقى السياسة الخارجية لترامب خلال ولايته الثانية مرتبطة بقوة عقيدته السياسية المتمحورة حول شعار "أميركا أولاً"، والتي تقوم على توجهات حمائية وتجارية متشددة مع انسحاب نسبي من الشؤون الدولية. غير أن المشهد العالمي أصبح أكثر تعقيدًا اليوم، مع تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا، وتفاقم الصراعات في الشرق الأوسط، وارتفاع حدة التنافس مع الصين . في هذا السياق، قد نشهد استراتيجية متجددة ترتكز على تعزيز الهيمنة الاقتصادية وفرض العقوبات كأداة لإظهار القوة الأميركية دون الاعتماد على التدخلات العسكرية المباشرة.
التحالف الأوروبي الأمريكي عبر ألية الناتو:
شهدت الولاية الأولى لترامب انتقادات واسعة لحلفاء الناتو، بعد أن طالبهم بزيادة إنفاقهم الدفاعي ليصل إلى نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم يكن تعامله مع الأوروبيين سلساً؛ فقد انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ واتخذت خطوات أثارت قلق الحلفاء مثل سحب القوات الأميركية من سوريا. خلال ولايته الثانية، قد يواصل ترامب نهج الضغط على الأوروبيين، مما يعزز احتمالية تراجع الدور الأميركي في المنظومة الأمنية الأوروبية، هذا التراجع قد يفتح المجال لصعود قوى جديدة داخل القارة الأوروبية تسعى لإعادة رسم السياسات الأمنية المشتركة بعيداً عن التأثير الأميركي، و إن كانت دول من أوروبا الوسطى مثل هنغاريا و بولندا لازلتا تراهنان على روابطهما الاستراتيجية مع واشنطن.
العلاقات الأميركية مع الصين: تصاعد التوتر التجاري
تميزت سياسة ترامب تجاه الصين في ولايته الأولى بتصعيد الصراع التجاري، حيث فرضت إدارته تعريفات جمركية على مئات المليارات من الواردات الصينية. ومع فوزه بولاية ثانية، من المتوقع أن يستمر هذا النهج مع فرض تعريفات جمركية أعلى، قد تصل إلى 60% على السلع الصينية، ما قد يؤدي إلى تصاعد الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. بينما يرى بعض الخبراء أن هذه السياسة لن تؤدي فقط إلى الإضرار بالاقتصاد الأميركي، بل ستقلل من فرص التعاون الدولي مع الصين في مواجهة القضايا العالمية المشتركة، مثل أزمة المناخ والتكنولوجيات الجديدة. لكن من المرجح أن يؤدي هذا التصعيد إلى خفض وثيرة خطط شي جين بينغ لتحويل البلاد إلى قوة تكنولوجية، خاصة في ظل الضغوط الداخلية مثل ركود سوق العقارات وارتفاع الديون الحكومية والبطالة وانخفاض الاستهلاك، علاوة على تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني منذ اندلاع أزمة كوفيد-19.
على مستوى آخر، لا يبدو ترامب متحمسا لتحويل منطقة شرق اسيا إلى بؤرة للتوتر العسكري، خاصة فيما يتعلق بالملفين التايواني والكوري الشمالي. ومع ذلك، ستظل منطقة المحيطين الهندي والهادئ محورية بالنسبة للولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد، خصوصًا في المياه الإقليمية لجنوب شرق آسيا. ، وكذا التفاعل مع الأدوار الجديدة التي يحاول أن يلعبها أدوار الدفاع المشتركة وحلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية. إذ تعمل الولايات المتحدة على توسيع وجودها العسكري وتكثيف العلاقات الدبلوماسية لتعزيز مفهوم "الهندوباسيفيك الحر والمفتوح." ويأتي هذا النهج متزامنًا مع تعزيز الشراكات الإقليمية، وتحديث الدعم اللوجستي، وتحسين آليات الردع.
تعزيز القدرات البحرية والخدمات اللوجستية للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ
في خطوة جريئة لمواكبة القوة البحرية المتزايدة للصين، طلبت الإدارة الأمريكية خلال ولاية بايدن موافقة الكونغرس لإجراء أعمال صيانة على السفن البحرية الأمريكية في أحواض بناء السفن الدولية التابعة للحلفاء. إذا حافظ ترامب على هذا النهج، فسيساعد ذلك الولايات المتحدة من تسريع إصلاح السفن المتضررة في مناطق النزاع المحتملة، مثل مضيق تايوان، من خلال الاستفادة من أحواض بناء السفن في كل من اليابان وكوريا الجنوبية والهند. هذه الخطوة لا تعزز فقط النفوذ الأميركي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بل ستؤكد أيضًا الشراكة الاستراتيجية مع هذه الدول، مما يدعم أدوار الدفاع المشتركة في المنطقة. و هو ما تعكسه تصورات القيادة العسكرية البحرية الأمريكية، بأن هذه الاستراتيجية اللوجستية تهدف إلى تحسين قدرة الاستجابة وتقليل نقاط الضعف في الحفاظ على جاهزية البحرية.
وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة عززت أيضًا الروابط الثلاثية مع اليابان وكوريا الجنوبية، كما هو متفق عليه في اتفاقية كامب ديفيد لعام 2023. حيث يؤكد هذا الإطار الجديد على التنسيق الدفاعي لمواجهة التحديات الناتجة عن تصاعد النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي واستفزازات كوريا الشمالية النووية. ومن الميزات البارزة لهذا التفاهم الجديد إجراء تدريبات سنوية متعددة المجالات لتحسين قابلية التشغيل البيني بين الدول الثلاث. تضيف آليات التنسيق الثلاثية مرونة إلى التحالفات الثنائية القائمة، وتؤكد على ضمان الأمن الأمريكي لليابان وكوريا الجنوبية، مع الحفاظ على قنوات مفتوحة للتشاور السريع بشأن الأزمات الإقليمية.
ولذلك فإنه بالرغم من التصعيد الإعلامي حول العلاقات الأمريكية الصينية، إلا أن سياسة الواقعية التي تميز الزعيمان ترامب وتشي جين بينغ جعل التعاون بين البلدين ضروريًا لاستقرار منطقة المحيطين الهندي والهادئ . ولذلك فالولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق توازن في الديناميكيات التنافسية، عبر معارضة الإجراءات الصينية الأحادية في بحر الصين الجنوبي ومعالجة المخاوف الأمنية بشأن تايوان، مع الحفاظ على "ضوابط" تمنع التصعيد. وهو ما تعكسه السياسة الأمريكية الحالية الرامية إلى الحفاظ على الوضع الراهن فيما يتعلق بتايوان، مع الدعوة إلى حل سلمي والتأكيد على الغموض الاستراتيجي. غير أن إدارة ترامب الثانية قد تمارس ضغوطا إضافية على الصين، لكن دون الإخلال بالتوازن.
فيما يتعلق بالتخوفات القائمة في تعاطي ترامب مع الصين، فقد تظهر بوضوح رغبة ترامب الحد من نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وسلاسل التوريد العالمية. وتعزيز مرونة سلاسل التوريد، خاصة في القطاعات الحيوية مثل أشباه الموصلات.
تُبرز التخوفات القائمة بتعامل دونالد ترامب مع الصين رغبة واضحة في الحد من نفوذ بكين، خصوصًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وفي سلاسل التوريد العالمية. تعكس هذه الاستراتيجية توجهًا نحو تعزيز مرونة سلاسل التوريد الأميركية، خاصة في القطاعات الحيوية مثل أشباه الموصلات، التي تُعد جزءًا أساسيًا من الاقتصاد الرقمي والتكنولوجي الحديث.ويتوقع أن تلعب مرونة الاقتصاد والتكنولوجيا دورًا محوريًا في استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. من خلال تعزيز الشراكة مع اليابان وكوريا الجنوبية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية quantum computing . و تسعى الولايات المتحدة إلى وضع معايير عالمية وحماية التقدم التكنولوجي. يأتي هذا في إطار ما يُسمى بـ"رزمة القيم الديمقراطية" ، التي تعكس مستوى التباينات الهيكلية بين نموذج الحكم الصيني و النماذج الليبرالية، كما يظهر جليا على مستوى اتساع نفوذ النظام الدولي القائم على الهيمنة الغربية على دول الجنوب. لكن يتوقع أن تشهد هذه السياسة المتجددة مع ترامب بعض التحديات السياسية، خاصة إذا ما عاد ترامب إلى تفعيل أسلوب لتدبير المقاولاتي" للتحالفات، بمعنى الدفع مقابل الحماية، ما قد يثير استياء حلفاء الولايات المتحدة إذ تتنامى اليوم الأصوات باليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والفلبين بضرورة تأسيس التحالفات مع الولايات المتحدة على مبدأ الاحترام المتبادل والاستقلالية في بناء التحالفات الإقليمية.
الواقع أن استراتيجية الولايات المتحدة لردع التهديدات النووية من كوريا الشمالية والصين وروسيا في الوقت ذاته تخلق اليوم بيئة محفوفة بالمخاطر خاصة على ضوء التطورات المتتالية خلال أسابيع فقط من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية. إن التحالف المتنامي بين كوريا الشمالية وروسيا، الذي يتضمن تبادل القوات مقابل الأسلحة، يضيف تعقيدًا للمنطقة، ويعزز هذا التحالف محور الصين-روسيا-كوريا الشمالية، مما يشكل تحديًا جديدا لقدرات الولايات المتحدة الاستراتيجية في آسيا. في هذا السياق، قد يكون من الضروري أن يعيد الرئيس ترامب تقييم التحالفات الأمريكية في آسيا، سواء كان ذلك بتعزيز التزامات الأمنية مع حلفائها التقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أو من خلال تشكيل تحالفات أوسع لمواجهة هذه التهديدات المتزايدة.
كما أن التعاون المتزايد بين كوريا الشمالية وروسيا، خاصة بعد تقديم كوريا الشمالية صواريخ مضادة للطائرات لروسيا مقابل تدريب القوات ونشرها يعكس شراكة عسكرية استراتيجية متنامية بين البلدين. بالنسبة لترامب، هذا التطور قد يدفع إلى إعادة تقييم سياسة العقوبات الأمريكية تجاه كوريا الشمالية وآليات تنفيذها، بالإضافة إلى زيادة الضغط للحد من أنشطتها العسكرية في المنطقة. قد يؤدي هذا التعاون أيضًا إلى تحويل تركيز ترامب نحو معالجة دور كوريا الشمالية كوكيل لمصالح روسيا في آسيا.
ولعل تمركز القوات الكورية الشمالية في كورسك بروسيا بعد تدريبها قد ينتهي بتوسيع كوريا الشمالية لبصمتها العسكرية خارج شبه الجزيرة الكورية. مما قد يؤدي إلى تعقيد’استراتيجيات التفاوض المحتملة لترامب مع كيم جونغ أون، ما يضعه أمام خيارين: إما تصعيد العقوبات والضغط العسكري، أو إعادة الانخراط في قمم رفيعة المستوى لردع التوجهات العسكرية العالمية المتزايدة لكوريا الشمالية.
لعل نشر حوالي 10,000 جندي كوري شمالي في روسيا للتدريب يعكس تعزيزًا كبيرًا للتحالف العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية. بالنسبة لترامب، فإن هذا التطور قد يتطلب إعادة صياغة استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال ضمان السيطرة على القدرات التقليدية والنووية لكوريا الشمالية عبر أطر تعزيز الأمن الإقليمي وزيادة الإنفاق الدفاعي.
و تزداد المخاوف ليوم من أن يؤدي تعديل روسيا لعقيدتها النووية الذي جاء كرد على الهجمات الأوكرانية باستخدام أسلحة طويلة المدى قدمتها الولايات المتحدة ، إلى ارتفاع خطر التصعيد النووي. ويؤثر ذلك بشكل مباشر على حسابات ترامب السياسية في آسيا، حيث يمكن لأي مواجهة نووية في أوروبا أن تستنزف الموارد وتشتت وتزيح الانتباه عن منطقة آسيا والمحيط الهادئ. في هذا السياق، قد يجد ترامب نفسه مضطرًا إلى الموازنة بين دعم أوكرانيا للحد من العدوان الروسي من جهة، وتركيز الجهود على منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ الصيني من جهة أخرى.
إن الديناميكيات المتغيرة – بما في ذلك تحالف كوريا الشمالية مع روسيا، واحتمالية وقوع نزاع نووي في أوروبا، والتهديدات الثلاثية المتصاعدة من الصين وروسيا وكوريا الشمالية – من المرجح أن تشكل سياسة ترامب في آسيا. ستكون إدارته بحاجة إلى مواجهة هذه التحديات من خلال تحقيق توازن دقيق بين عدة عناصر منها تعزيز القوة العسكرية، وبناء التحالفات، والدبلوماسية رفيعة المستوى لتجنب تصاعد التوترات مع الحفاظ على الهيمنة الاستراتيجية الأمريكية في آسيا.
روسيا وأوكرانيا: محاولات لإنهاء النزاع بشروط غير متوازنة
أشار ترامب مرارًا إلى رغبته في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بسرعة، واقترح على أوكرانيا تقديم بعض التنازلات لموسكو. ومن المتوقع أن يسعى ترامب في هذه المرحلة الجديدة إلى التوصل إلى اتفاق سلام قد يتضمن تراجعات من الجانب الأوكراني، مستخدمًا الدعم الأميركي كوسيلة للضغط على القيادة الأوكرانية. في المقابل، ترتفع حالة القلق لدى الفاعلين بأوروبا الغربية من أن تؤدي هذه الضغوط الأمريكية المحتملة إلى تسوية غير عادلة تُضعف استقلالية أوكرانيا وتتيح لموسكو فرصة أكبر للتدخل في شؤون جيرانها.
الشرق الأوسط: إعادة دفء العلاقات الامريكية العربية، دعم إسرائيل وتحجيم النفوذ الإيراني:
لا يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في وصف ترامب بأنه "أفضل صديق لإسرائيل في البيت الأبيض"، وقد تجسد دعم ترامب لإسرائيل خلال ولايته الأولى عبر نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان. من المرجح أن يستمر ترامب في هذا التوجه خلال ولايته الثانية، مما قد يمنح إسرائيل حرية أكبر في اتخاذ خطوات أكثر صرامة ضد الفلسطينيين وضد الأطراف الداعمة لهم، مثل إيران.
من جهة أخرى ، يتوقع أن يقوم ترامب مع فريقه في السياسة الخارجية بإجراء تعديلات جوهرية على مسودته حول الشرق الأوسط التي كان قد قدمها خلال ولايته الاولى. وربما سيدفعه هذا إلى المراهنة على مرحلة ما بعد نتنياهو، يستطيع من خلالها إرضاء حلفائه العرب فيما يخص مبدأ حل الدولتين بشكل يتناسب مع توقعات شركائه بمصر، والسعودية، والامارات، والأردن. وقد تأخذ سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط منحى براغماتيًا يركز على المصالح الأمريكية ويميل إلى خيار الدبلوماسية بدلاً من التدخل العسكري المباشر. إذ من المتوقع أن يعطي أولوية لتعزيز التحالفات من خلال اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل والدول العربية، مستندًا إلى اتفاقيات أبراهام التي أبرمت خلال ولايته الأولى. ومن خلال تشجيع الحلفاء في الشرق الأوسط على لعب دور أكثر فاعلية في تأمين المنطقة، ستعمل إدارة ترامب ضمن هذا السيناريو على تقليل الالتزامات العسكرية الأمريكية الطويلة الأمد وتحقيق الاستقرار من خلال التعاون الإقليمي. هذا التحول في السياسة يعكس استراتيجية واقعية، تجمع بين الضغط الاقتصادي والتحالفات الدبلوماسية لمواجهة التحديات الأمنية المعقدة في الشرق الأوسط.
لكن المعضلة الأساسية، تكمن في كون ترامب سيدخل على حرب مستمرة، يصعب عليه وضع شروط جديدة لتدبير الازمة، ما لم يتم وضع إطار جديد يقنع فيه تل أبيب بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة و لبنان.
على مستوى إقليمي أكبر، يُتوقع أن تشهد السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران والشرق الأوسط تحولًا ملحوظًا. حيث تتمحور استراتيجية ترامب حول حملة "الضغط الأقصى" القوية التي تهدف إلى كبح طموحات إيران النووية والحد من دعمها للجماعات المسلحة مثل حزب الله. من خلال إعادة فرض عقوبات اقتصادية صارمة على القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الإيراني، تسعى الإدارة إلى تعطيل قنوات الإيرادات التي قد تمول النفوذ الإيراني في المنطقة. هذه المقاربة، وإن كانت تهدف إلى تقليل دور إيران في زعزعة استقرار الشرق الأوسط، إلا أنها تحمل مخاطر تصاعد التوترات وقد تؤدي إلى نفور الفصائل الأكثر اعتدالاً داخل الشيعي بالمنطقة. وبتحالفه المتوقع مع شركائه الخليجيين مثل السعودية والإمارات، سيهدف ترامب إلى إعادة بناء تحالف يركز على ردع طموحات إيران. لكن يرى مراقبون أن التوازن الإقليمي في المنطقة، يقتضي الحفاظ على التوازن السني-الشيعي، دون أن يؤدي تقليص الوجود الشيعي إلى توسيع طموحات تركيا كقوة إقليمية سنية في المنطقة.
التحديات في سياسته الخارجية: التعددية العالمية والتعاون الدولي
خلال ولايته الأولى، انتقد ترامب بشدة الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة وحلف الناتو، وقلل من التزامات الولايات المتحدة تجاه الاتفاقيات متعددة الأطراف. إذا استمر هذا النهج في ولايته الثانية، فقد يؤدي إلى تراجع في التعاون الدولي ومزيد من التحديات للنظام العالمي متعدد الأطراف. تخشى العديد من الدول الأوروبية من أن يؤدي هذا النهج إلى إضعاف منتدى مجموعة السبع وإلى تقليص الدور الأميركي في حل الأزمات الدولية، مما قد يفتح المجال لقوى أخرى مثل الصين وروسيا لتعزيز نفوذهما.
في ضوء توجهات ترامب وأولوياته الجديدة في السياسة الخارجية، يمكن القول إن فترة ولايته الثانية قد تشهد تصاعدًا في التوترات الدولية، خاصة مع الصين وإيران، إلى جانب إمكانية تدهور العلاقات مع الحلفاء التقليديين في أوروبا. على الرغم من تعهداته بإنهاء النزاعات وتحقيق السلام في مناطق مختلفة، إلا أن نهجه "أميركا أولاً" قد يحد من قدرة الولايات المتحدة على بناء تحالفات قوية أو تحقيق استقرار دائم على الساحة الدولية.