Publications /
Opinion

Back
وباء الكوليرا 1830-1834
Authors
محمد حبيدة
April 14, 2020

   في القرن التاسع عشر شكلت الكوليرا أعظم وباء هدَّد البشرية، انطلاقا من الهند، باعتبارها البؤرة الرئيسة التي امتد منها المرض ليعم مختلف أرجاء المعمور، شرقا وغربا، ومنها المغرب الذي قدِم إليه من أوروبا بحكم العلاقات التجارية بينه وبين بلدانها. لما وصل الوباء إلى أوروبا وضربها ما بين 1830 و1834 كانت الظروف مواتية ليتفشَّى بقوة، ويعصف ليس فقط بحياة عامَّة الناس، من البروليتاريين الذين عاشوا خلال هذه المرحلة بؤسا رهيبا في المدن الصناعية، نتيجة الاكتظاظ والسكن غير اللائق وقلة النظافة وغياب قنوات الصرف الصحي، بل بخاصّة الناس أيضا. الفيلسوف الألماني هيجل، مثلا، كان قد ذهب ضحية هذا الوباء عام 1831.

ومن موانئ أوروبا وصلت الكوليرا إلى المغرب عام 1834، حيث تسببت في موت "خلق كثير وجم غفير"، بحسب العبارة التي ترددت في الكثير من النصوص التاريخية. وقد أورد المؤرخ محمد الأمين البزاز، في كتابه "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب"، شهادة إخبارية تقول: "هو ريح ما سمعوا به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرة والريح الأصفر وبوقليب.. إذا أصاب الرجل تغير لونه واسود جفن عينه ويجعله يقيء من أعلى ويسهل من أسفله، ومن الناس من يشتكي مع ما ذُكر وجعَ رجليه ويموت في الحين".  

وفيما وراء حجم الخسائر البشرية التي خلفها الوباء، وتفاصيل المرض وما نجم عنه من مآسي اجتماعية، من موتٍ جماعي وترمُّلٍ وتيتُّمٍ، يحتفظ المؤرخ برد فعل المجتمع والدولة في مواجهة هذه الكارثة البيولوجية. فقد أبان الناس عن قيم التضامن والتكافل من حيث الاعتناء بالمرضى، ومساعدة الفقراء، وتبنِّي الأيتام. ولعب المخزن دورا كبيرا في التخفيف من معاناة الناس، إذ كان يوزعُ الصدقات على المحتاجين، وفق إشارات الوثائق، ويعاقبُ المضاربين الذين كانوا يستغلون الأزمة لتخبئة المواد الغذائية والزيادة في أسعارها، كما كان يُخرِج ما في مخازنه من حبوب لضمان وفرتها في الأسواق، وخلق توازن بين العرض والطلب.

غير أن ما يثير الانتباه في موضوع الكوليرا هو اختلاف المقاربة التي نهجتها المجتمعات إزاء الوباء. ففي الوقت الذي ظلت فيه المجتمعات الهندية والعربية الإسلامية، ومجتمعات أخرى في آسيا وإفريقيا، وفيَّة لطرق العلاج التقليدية ومتشبثة بالغيب، سارت أوروبا على درب الملاحظة والتجربة وكافحت ضد الأمراض والأوبئة بطريقة علمية ومخبرية. ففي القرن التاسع عشر تطور العلم في الجامعات الأوروبية، وتعاظمت سلطة البيولوجيين والأطباء، واتخذت شكل ثورة علمية مع عالمي البكتيريا، الألماني روبيرت كُوشْ مكتشف "بكتيريا الكوليرا"، والفرنسي لويس باستور مكتشف التلقيح. منذ ذلك الوقت، أصبح العنصر المرَضي الرئيسي الواجب الاحتماء منه هو الميكروب الذي لا لون له ولا رائحة، والذي لا يمكن الكشف عنه إلا بواسطة المجهر. وبذلك تغيرت الممارسات الصحية رأسا على عقب، تعزَّزت مع إقرار أولى عمليات الفحص المنتظمة والفعالة عند الدخول إلى نيويورك عام 1887. ففي هذا القرن استطاع الغرب رسم حدود بيولوجية بين عالمين متفاوتين: عالم أوروبا وأمريكا الشمالية وحتى اليابان التي استطاعت اللحاق بالركب الغربي مع ثورة الميجي، من جهة، وباقي العالم (آسيا وإفريقيا) من جهة ثانية، حيث صارت الأوبئة ميدانا مواتيا للتعبير عن "تفوق" أوروبا العلمي، من خلال الاكتشافات الطبية والمخبرية، والتجارب السريرية، والمؤتمرات الصحية الدولية التي انعقدت في كبريات المدن الأوروبية، والمجلات المتخصصة، والتجهيزات الصحية، التي جعلت من الطب مؤسسة قائمة على البحث العلمي.

 مع موجة الاستعمار، عمَّت الثورة العلمية الباستورية (نسبةً للويس باستور)، القائمة على أساس التشخيص والمجهر والتحليلات الطبية، أقطار عريضة من العالم. في المغرب مثلا، الذي عانى لقرون طويلة من الأوبئة شأنه في ذلك شأن باقي المجتمعات البشرية، لعب "معهد باستور"، الذي رأى النور بالدار البيضاء عام 1929 بمبادرة من الطبيب الفرنسي إميل رُو، دورا كبيرا في الانتقال من طب تقليدي إلى طب حديث. ويبيِّن الباحث بوجمعة رويان في كتابه "الطب الاستعماري الفرنسي بالمغرب"، كيف أظهرت هذه المؤسسة للجميع تفوقَ العلم على الشعوذة والدجل، لـمّا زوَّدت المستشفيات والمستوصفات بكميات كبيرة من اللقاح، إذ وفَّرت ما بين 1932 و1935 ما يقرب من أربعة ملايين جرعة لقاحية لأغراض طبية مختلفة، إيذانا بمرحلة جديدة اتسعت فيها دائرة عمليات التلقيح وآليات العلاج المرتبطة بالإسعافات والأدوية ولوازم النظافة في معالجة الأمراض والأوبئة.    

اليوم، مع ما نعيشه من أوضاع صحية بسبب وباء كورونا المستجد الذي خلق الهلع والجزع في العالم أجمع، وأوقف عجلة الاقتصاد، تُطرح علينا أسئلة كثيرة: أسئلة الحداثة وهشاشتها بالقياس إلى عجز التجهيزات الصحية عن احتواء الفيروس احتواءً سريعا وشاملا وفعالا، وأسئلة الحياة أيضا، كون أن الاستثمار في البحوث الطبية والأساليب الوقائية المواتية والأنظمة الغذائية الصحية، هو السبيل الوحيد لمستقبل بيئي يتسع لجميع الأجيال.

 

د. محمد حبيدة

مؤرخ وأكاديمي بجامعة ابن طفيل (القنيطرة). مختص في التاريخ الاجتماعي والمناهج التاريخية والترجمة. مدير سابق لمختبر "تاريخ وسوسيولوجيا المغارب". من مؤلفاته:

المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار ( بالفرنسية: 2008، وبالعربية: 2018)

بؤس التاريخ: مراجعات ومقاربات (2015)

الكتابة التاريخية (ترجمة): التاريخ والعلوم الاجتماعية، التاريخ والذاكرة، تاريخ العقليات (2015)

RELATED CONTENT

  • December 1, 2021
    La pandémie a déclenché une crise de développement sans précédent, qui a remis en cause la résilience de nos systèmes économiques, politiques et sociaux. Mais, dans l’effort de confronter ses implications multiples, il y a aussi une opportunité de s’élargir vers de nouveaux horizons en ...
  • December 1, 2021
    La pandémie a déclenché une crise de développement sans précédent, qui a remis en cause la résilience de nos systèmes économiques, politiques et sociaux. Mais, dans l’effort de confronter ses implications multiples, il y a aussi une opportunité de s’élargir vers de nouveaux horizons en ...
  • Authors
    Lex Paulson
    November 30, 2021
    On 16 December 2019, the Honorable Chakib Benmoussa, then Morocco’s ambassador to France, gathered 35 fellow citizens in a conference room at the Royal Academy in the leafy outskirts of Rabat. The three dozen members of the Commission spéciale sur le modèle de développement (CSMD) had been selected for their scientific, economic and political expertise, as well as eminence in the cultural and non-profit sectors. The Commission’s mandate, given by King Mohammed VI, was a daunting one ...
  • Authors
    Renato S. Vieira
    Inácio F. Araújo
    Silvio M. Ichihara
    Fernando S. Perobelli
    Karina S. S. Bugarin
    November 23, 2021
    As COVID-19-related health indicators improve after restrictive measures were set in place in different parts of the world, governments are expected to guide how to ease interventions while minimizing the risk of resurgent outbreaks. Whereas epidemiologists track the progress of the disease using daily indicators to understand the pandemic better, economic activity indicators are usually available at a lower frequency and with considerable time lags. We propose and implement a timel ...
  • November 22, 2021
    The Covid-19 pandemic created a global shock to which public health services attempted to respond and which crystallized on effective ways to ensure global immunity. Developing countries in the South were faced with a double challenge. On the one hand, they have to deal with the heavy b...
  • November 16, 2021
    This edition of the World Bank MENA Economic Update estimates that the Middle East and North Africa (MENA) region’s economies, which contracted by 3.8% in 2020, will grow by 2.8% in 2021. Overall, the output cost of COVID-19 so far in MENA is almost $200 billion, a number estimated by c...
  • Authors
    October 21, 2021
    In the World Economic Outlook, published October 12, the International Monetary Fund (IMF) slightly lowered its forecast for global economic growth this year to 5.9%, while maintaining a forecast of 4.9% for 2022. It also emphasized the “divergence” in the pace and extent of economic recovery in different countries. Two factors are highlighted in explaining the divergence. First, there are the different paces and extent of vaccination in different countries, that is, the ‘Great Vac ...
  • Authors
    October 11, 2021
    The current global pattern of democratic retrenchment has multiple causes, including economic inequality, American imperial overreach, and increased migration, all of which have led to disillusionment with democratic systems, and inspired a populist demand for populist leaders. This populist wave has also led to the personalization of political regimes, democratic and authoritarian, with power highly concentrated in the hands of a single individual, as seen in Turkey, Philippines, P ...
  • September 23, 2021
    Official statistics record more than 4.6 million people as dying of COVID-19 across the world, a population roughly equal to that of New Zealand. About 10,000 people continue to die of the disease every day. Furthermore, there is strong evidence that the number of COVID-19 deaths is underreported in many instances. For example, a continuously updated database of estimated COVID-19 deaths by The Economist suggests that the actual number of deaths across the world could be two to thre ...
  • September 13, 2021
    When Argentina’s President Alberto Fernandez tested positive for COVID-19 on his 62nd birthday, April 2, 2021 it might not have seemed unusual when there have been almost 200 million cases worldwide. But the leader of Argentina received two doses of the Russian vaccine Sputnik V, on January and in February 2021, a virus terminator advertised by Moscow as potent like almost no other on the globe, with an efficiency rate given by Russia’s Gamaleya Institute at 96.1%. The risk of infec ...